فصل: ذكر فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الفرنج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج

في هذه السنة اشتدت نكاية الكرج في بلد الإسلام وعظم الأمر على الناس لا سيما أهل دربند شروان فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان وشكوا إليه ما يلقون منهم وأعلموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود من هناك فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له‏:‏ نحن نقاتل ما دمت عندنا وإن تأخرت عنا ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا فقبل قولهم وأقام بمكانه‏.‏

وبات العسكر على وجل عظيم وهم بنية المصاف فأتاهم الله بفرج من عنده وألقى بين الكرج وقفجاق اختلافًا وعداوة فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبه المنهزمين وكفى الله المؤمنين القتال وأقام السلطان بشروان مدة ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة‏.‏

  ذكر الحرب بين المغاربة وعسكر مصر

في هذه السنة وصل جمع كثير من لواثة من الغرب إلى ديار مصر فأفسدوا فيها ونهبوها وعملوا أعمالًا شنيعة فجمع المأمون بن البطائحي الذي وزر بمصر بعد الأفضل عسكر مصر وسار إليهم فقاتلهم فهزمهم وأسر منهم وقتل خلقًا كثيرًا وقرر عليهم خرجًا معلومًا كل سنة يقومون به وعادوا إلى بلادهم وعاد المأمون إلى مصر مظفرًا منصورًا‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في صفر أمر المسترشد بالله بناء سور بغداد وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد فشق ذلك على الناس وجمع من ذلك مال كثير فلما علم الخليفة كراهة الناس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم فسروا بذلك وكثر الدعاء له‏.‏

وقيل‏:‏ إن الوزير أحمد بن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار وقال‏:‏ نقسط الباقي على أرباب الدولة‏.‏

وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه وكانوا يتناوبون العمل‏:‏ يعمل أهل كل محلة منفردين بالطبول والزمور وزينوا البلد وعملوا فيه القباب‏.‏

وفيها عزل نقيب العلويين وهدمت دار علي بن أفلح وكان الخليفة يكرمه فظهر أنهما عين لدبيس يطالعانه بالأخبار وجعل الخليفة نقابة العلويين إلى علي بن طراد نقيب العباسيين‏.‏

وفيها جمع الأمير بلك عساكره وسار إلى غزاة بالشام فلقيه الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم وأسر بشر كثير من مقدميهم ورجالتهم‏.‏

وفيها كان أكثر في البلاد غلاء شديد وكان أكثره بالعراق فبلغ ثمن كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير وعشرة قراريط وتبع ذلك موت كثير وأمراض زائدة هلك فيها كثير من الناس‏.‏

وفيها في صفر توفي قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسني أمير مكة وولي بعده ابنه أبو فليته وكان أعدل منه وأحسن السيرة فأسقط المكوس وأحسن إلى الناس‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسين أبو نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة وهو من أعيان المحدثين سافر الكثير في طلب الحديث‏.‏

وفيها سار طغتكين صاحب دمشق إلى حمص فهاجم المدينة ونهبها وأحرق كثيرًا منها وحصرها وصاحبها قرجان بالقلعة فاستمد صاحبها طغان أرسلان فسار إليه في جمع كثير فعاد طغتكين إلى دمشق‏.‏

وفيها لقي أسطول مصر أسطول البنادقة من الفرنج فاقتتلوا وكان الظفر للبنادقة وأخذ من أسطول مصر عدة قطع وعاد الباقي سالمًا‏.‏

وفيها سار الأمير محمود بن قراجة صاحب حماة إلى حصن أفامية فهجم على الربض بغتة فأصابه سهم من القلعة في يده فاشتد ألمه فعاد إلى حماة وقلع الزج من يده ثم عملت عليه فمات منه واستراح أهل عمله من ظلمه وجوره فلما سمع طغتكين صاحب دمشق الخبر سير إلى حماة عسكرًا فملكها وصارت في جملة بلاده ورتب فيها واليًا وعسكرًا لحمايتها‏.‏

  ثم دخلت سنة ثماني عشرة وخمسمائة

  ذكر قتل بلك بن بهرام بن أرتق

في هذه السنة في صفر قبض بلك بن بهرام بن أرتق صاحب حلب على الأمير حسان البعلبكي صاحب منبج وسار إليها فحصرها فملك المدينة وحصر القلعة فامتنعت عليه فسار الفرنج إليه ليرحلوه عنها لئلا يقوى بأخذها فلما قاربوه ترك على القلعة من يحصرها وسار في باقي عسكره إلى الفرنج فلقيهم وقاتلهم فكسرهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وعاد إلى منبج فحصرها فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله لا يدرى من رماه واضطرب عسكره وتفرقوا وخلص حسان من الحبس فكان حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق مع ابن عمه بلك فحمله مقتولًا إلى ظاهر حلب وتسلمها في العشرين من ربيع الأول من هذه السنة وزال الحصار عن قلعة منبج وعاد إليها صاحبها حسان واستقر تمرتاش بحلب واستولى عليها‏.‏

ثم إنه جعل فيها نائبًا له يثق به ورتب عنده ما يحتاج إليه من جند وغيرهم وعاد إلى ماردين لأنه رأى الشام كثيرة الحرب مع الفرنج وكان رجلًا يحب الدعة والرفاهية فلما عاد إلى ماردين أخذت حلب منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ملك الفرنج مدينة صور بالشام

كانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله العلوي يلقب عز الملك وكان الفرنج قد حصروها وضيقوا عليها ونهبوا بلدها غير مرة فلما كانت سنة ست تجهز ملك الفرنج وجمع عساكره ليسير إلى صور فخافهم أهل صور فأرسلوا إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق يطلبون منه أن يرسل إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم ويكون البلد له وقالوا له‏:‏ إن أرسلت إلينا واليًا وعسكرًا وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج فسير إليهم عسكرًا وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها وأمده بعسكر وسير إليهم ميرة ومالًا فرقه فيهم‏.‏

وطابت نفوس أهل البلد ولم تغير الخطبة للآمر صاحب مصر ولا السكة وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال ويقول‏:‏ متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذب عنها سلمتها إليه ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة‏.‏

فشكره الأفضل على ذلك وأثنى عليه وصوب رأيه فيما فعله وجهز أسطولًا وسيره إلى صور فاستقامت أحوال أهلها‏.‏

ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة بعد قتل الأفضل فسير إليها أسطول على جاري العادة وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين ويقبض عليه ويتسلم البلد منه‏.‏

وكان السبب في ذلك‏:‏ أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله صاحب مصر بما يعتمده من مخالفتهم والإضرار بهم ففعلوا ذلك وسار الأسطول فأرسي عند صور فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله ونزل البلد واستولى عليه وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود فأكرم وأحسن إليه وأعيد إلى دمشق‏.‏

وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود فأحسن طغتكين الجواب وبذل من نفسه المساعدة‏.‏

ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وحدثوا نفوسهم بملكها وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها فسمع الوالي بها للمصريين الخبر فعلم أنه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها لقلة من بها من الجند والميرة فأرسل إلى الآمر بذلك فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين صاحب دمشق فأرسل إليه بذلك فملك صور ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية‏.‏

وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة وضيقوا عليهم ولازموا القتال فقلت الأقوات وسئم من بها القتال وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم ويذب عن البلد ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا فلم يتحركوا ولزموا الحصار فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم فلم ينجدوه وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك فراسل حينئذ طغتكين صاحب دمشق وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها فاستقرت القاعدة على ذلك وفتحت أبواب البلد وملكه الفرنج وفارقه أهله وتفرقوا في البلاد وحملوا ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه ولم يعرض الفرنج لأحد منهم ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة‏.‏

وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة وكان فتحه وهنًا عظيمًا على المسلمين فإنه من أحصن البلاد وأمنعها فالله يعيده إلى الإسلام ويقر أعين المسلمين بفتحه بمحمد وآله‏.‏

  ذكر عزل البرسقي عن شحنكية العراق وولاية يرنقش الزكوي

وسبب ذلك‏:‏ أن البرسقي نفر عنه المسترشد بالله فأرسل إلى السلطان محمود يلتمس منه أن يعزل البرسقي عن العراق ويعيده إلى الموصل فأجابه السلطان إلى ذلك وأرسل إلى البرسقي يأمره بالعود إلى الموصل والاشتغال بجهاد الفرنج فلما علم البرسقي الخبر شرع في جباية الأموال ووصل نائب يرنقش فسلم إليه البرسقي الأمر وأرسل السلطان ولدًا له صغيرًا مع أمه إلى البرسقي ليكون عنده فلما وصل الصغير إلى العراق خرجت العساكر والمواكب إلى لقائه وحملت له الإقامات وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا وتسلمه البرسقي وسار إلى الموصل وهو ووالدته معه‏.‏

ولما سار البرسقي إلى الموصل كان عماد الدين زنكي بن آقسنقر بالبصرة قد سيره البرسقي إليها ليحميها فظهر من حمايته لها ما عجب منه الناس ولم يزل يقصد العرب ويقاتلهم في حللهم حتى أبعدوا إلى البر فأرسل إليه البرسقي يأمره باللحاق به فقال لأصحابه‏:‏ قد ضجرنا مما نحن فيه‏:‏ كل يوم للموصل أمير جديد ونريد نخدمه وقد رأيت أن أسير إلى السلطان فأكون معه فأشاروا عليه بذلك فسار إليه فقدم عليه بأصبهان فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها‏.‏

في هذه السنة في ذي الحجة ملك آقسنقر البرسقي مدينة حلب وقلعتها‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور على ما ذكرناه طمعوا وقويت نفوسهم وتيقنوا الاستيلاء على بلاد الشام واستكثروا من الجموع ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلة فأطمعهم طمعًا ثانيًا لا سيما في حلب وقال لهم‏:‏ إن أهلها شيعة وهم يميلون إلي لأجل المذهب فمتى رأوني سلموا البلد إلي‏.‏

وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة وقال‏:‏ إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم‏.‏

فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالًا شديدًا ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها وبنوا البيوت لأجل البرد والحر‏.‏

فلما رأى أهلها ذلك ضعفت نفوسهم وخافوا الهلاك وظهر لهم من صاحبهم تمرتاش الوهن والعجز وقلت الأقوات عندهم فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلصون به فرأوا أنه ليس لهم غير البرسقي صاحب الموصل فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيء إليهم ليسلموا البلد إليه‏.‏

فجمع عساكره وقصدهم وأرسل إلى من بالبلد وهو في الطريق يقول‏:‏ إنني لا أقدر على الوصول إليكم والفرنج يقاتلونكم إلا إذا سلمتم القلعة إلى نوابي وصار أصحابي فيها فإنني لا أدري ما يقدره الله تعالى إذا أنا لقيت الفرنج فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيد أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها لم يبق منا أحد وحينئذ تؤخذ حلب وغيرها‏.‏

فأجابوه إلى ذلك وسلموا القلعة إلى نوابه فلما استقروا فيها واستولوا عليها سار في العساكر التي معه فلما أشرف عليها رحل الفرنج عنها وهو يراهم فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم فمنعهم هو بنفسه وقال‏:‏ قد كفينا شرهم وحفظنا بلدنا منهم والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها ونكثر ذخائرها ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم‏.‏

فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه وفرحوا به وأقام عندهم حتى أصلح الأمور وقررها‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة انقطعت الأمطار في العراق والموصل وديار الجزيرة والشام وديار بكر وكثير من البلاد فقلت الأقوات وغلت الأسعار في جميع البلاد ودام إلى سنة تسع عشرة‏.‏

وفيها وصل منصور بن صدقة أخو دبيس إلى بغداد تحت الاستظهار فمرض بها فأحضر الخليفة الأطباء وأمرهم بمعالجته وأحضره عنده وجعل في حجرة وأدخل أصحابه إليه‏.‏

وفيها سار دبيس من الشام بعد رحيله عن حلب وقصد الملك طغرل فأغراه بالخليفة وفيها مات الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب ألموت وقد تقدم من أخباره ما يعلم به محله من الشجاعة والرأي والتجربة‏.‏

وفيها أيضًا توفي داود ملك الأبخاز وشمس الدولة بن نجم الدين إيلغازي‏.‏

وفيها ثار أهل آمد بمن فيها من الإسماعيلية وكانوا قد كثروا فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل فضعف أمرهم بها بعد هذه الوقعة‏.‏

وفيها في صفر توفي محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني وهو من أصحاب الخطيب البغدادي‏.‏

وفيها توفي أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح الفقيه المعروف بابن الحمامي لأن أباه كان حماميًا وكان حنبليًا تفقه على ابن عقيل ثم صار شافعيًا وتفقه على الغزالي والشاشي‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة

  ذكر وصول الملك طغرل إلى العراق

قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة إلى الملك طغرل من الشام فلما وصل إليه لقيه وأكرمه وأحسن إليه وجعله من أعيان خواصه وأمرائه فحسن له دبيس قصد العراق وهون أمره عليه وضمن له أنه يملكه فسار معه إلى العراق فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة‏.‏

فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما فتجهز للمسير ومنعهما وأمر يرنقش الزكوي شحنة العراق أن يكون مستعدًا للحرب وجمع العساكر والأمراء البكجية وغيرهم فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفًا سوى الرجالة وأهل بغداد وفرق السلاح‏.‏

وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة وخرج من باب النصر وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام وسماه باب النصر ونزل صحراء الشماسية ونزل يرنقش عند السبتي ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر‏.‏

فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان وتفرق أصحابه في النهب والفساد ونزل هو رباط جلولاء فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير فنزل الدسكرة وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسار الخليفة فنزل بالدسكرة هو والوزير واستقر الأمر بين دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا ويقطعا جسر النهروان ويقيم دبيس ليحفظ المعابر ويتقدم طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها فسارا على هذه القاعدة فعبرا تامرا ونزل طغرل بينه وبين ديالى‏.‏

وسار دبيس على أن يلحقه طغرل فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله وزادت المياه وجاءت السيول والخليفة بالدسكرة وسار دبيس في مائتي فارس وقصد معرة النهروان وهو تعبان سهران وقد لقي أصحابه من المطر والبل ما آذاهم وليس معهم ما يأكلون ظنًا منهم أن طغرل وأصحابه يلحقونهم فتأخروا لما

ذكرناه فنزلوا جياعًا قد نالهم البرد وإذا قد طلع عليهم ثلاثون جملًا تحمل الثياب المخيطة والعمائم والأقبية والقلانس وغيرها من الملبوس وتحمل أيضًا أنواع الأطعمة المصنوعة قد حملت من بغداد إلى الخليفة فأخذ دبيس الجميع فلبسوا الثياب الجدد ونزعوا الثياب الندية وأكلوا الطعام وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة‏.‏

وبلغ الخبر أهل بغداد فلبسوا السلاح وبقوا يحرسون الليل والنهار ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيسًا قد ملك بغداد فرحل من الدسكرة ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره لكان قد هلك العسكر والخليفة أيضًا وأخذوا وكانت السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل فتمزقوا ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا‏.‏

ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام وتقدم الخليفة وأشرف على ديالى ودبيس نازل غرب النهروان والجسر ممدودة شرق النهروان فلما أبصر دبيس الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال‏:‏ أنا العبد المطرود فليعف أمير المؤمنين عن عبده‏.‏

فرق الخليفة له وهم بصلحه حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه وركب دبيس ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار فسار حينئذ دبيس عائدًا إلى الملك طغرل وسير الخليفة عسكرًا مع الوزير في أثره وعاد إلى بغداد فدخلها وكانت غيبته خمسة وعشرين يومًا‏.‏

ثم إن الملك طغرل ودبيسًا عادا وسارا إلى السلطان سنجر فاجتازا بهمذان فقسطا على أهلها مالًا كثيرًا وأخذاه وغابا في تلك الأعمال فبلغ خبرهم السلطان محمودًا فجد السير إليهم فانهزموا من بين يديه وتبعتهم العساكر فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر وشكوا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي‏.‏

  ذكر فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الفرنج

في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام وقصد كفر طاب وحصرها فملكها من الفرنج وسار إلى قلعة عزاز وهي من أعمال حلب من جهة الشمال وصاحبها جوسلين فحصرها فاجتمعت الفرنج فارسها وراجلها وقصدوه ليرحلوه عنها فلقيهم وضرب معهم مصافًا واقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا كلهم فيه فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير‏.‏

وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين وعاد منهزمًا إلى حلب فخلف بها ابنه مسعودًا وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر قتل المأمون بن البطائحي

في هذه السنة في رمضان قبض الآمر بأحكام الله العلوي صاحب مصر على وزيره أبي عبد الله بن البطائحي الملقب بالمأمون وصلبه وإخوته‏.‏

وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق فمات ولم يخلف شيئًا فتزوجت أمه وتركته فقيرًا فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش مرة بعد أخرى فرآه الأفضل خفيفًا رشيقًا حسن الحركة حلو الكلام فأعجبه فسأل عنه فقيل هو ابن فلان فاستخدمه مع الفراشين ثم تقدم عنده وكبرت منزلته وعلت حالته حتى صار وزيرًا‏.‏

وكان كريمًا واسع الصدر قتالًا سفاكًا للدماء وكان شديد التحرز كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد‏:‏ مصر والشام والعراق وكثر الغمازون في أيامه‏.‏

وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرًا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة وتقررت القاعدة بينهما على ذلك فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصًا بالآمر قريبًا منه وقد ناله من الوزير أذى واطراح فحضر عند الآمر وأعلمه الحال فقبض عليه وصلبه وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك صاحب قلعة جعبر وتعرف قديمًا بقلعة دوس‏.‏

وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان قتله الباطنية وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر فعاد فقتل وكان ذا مروءة غزيرة وتقدم كثير في الدولة السلجوقية‏.‏

و في هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد وهو من ولد بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو سعد طاف البلاد وسمع وقرأ القرآن وكان موته بسمرقند‏.‏

  ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة

  ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس

في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس واستطال على المسلمين فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج وجاس في بلاد الإسلام وخاضها حتى وصل إلى قريب قرطبة وأكثر النهب والسبي والقتل فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة وقصدوه فلم يكن له بهم طاقة فتحصن منهم في حصن منيع له اسمه أرنيسول فحصروه وكبسهم ليلًا فانهزم المسلمون وكثر القتل فيهم وعاد إلى بلاده‏.‏

  ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسان

في هذه السنة أمر الوزير المختص أبو نصر أحمد بن الفضل وزير السلطان سنجر بغزو الباطنية وقتلهم أين كانوا وحيثما ظفر بهم ونهب أموالهم وسبي حريمهم وجهز جيشًا إلى طريثيت وهي لهم وجيشًا إلى بيهق من أعمال نيسابور وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة وسير إلى كل طرف من أعمالهم جمعًا من الجند ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها‏.‏

فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر فقتلوا كل من بها وهرب مقدمهم وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيت قتلوا من أهلها فأكثروا وغنموا من أموالهم وعادوا‏.‏

  ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياس

في هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام وقويت شوكتهم وملكوا بانياس في ذي القعدة منها‏.‏

وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي لما قتل خاله ببغداد كما ذكرناه هرب إلى الشام وصار داعي الإسماعيلية فيه وكان يتردد في البلاد ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه فاستجاب له منهم من لا عقل له فكثر جمعه إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف وأقام بحلب مدة ونفر إلى إيلغازي صاحبها‏.‏

وأراد إيلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم وقصد من يتمسك بهم وأشار إيلغازي على طغتكين صاحب دمشق بأن يجعله عنده لهذا السبب‏.‏

فقبل رأيه وأخذه إليه فأظهر حينئذ شخصه وأعلن دعوته فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصدًا للاعتضاد به على ما يريد فعظم شره واستفحل أمره وصار أتباعه أضعاف ما كانوا فلولا أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد‏.‏

ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه فخاف عاديتهم فطلب من طغتكين حصنًا يأوي إليه هو ومن اتبعه فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه فسلمت إليه فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية فعظم حينئذ خطبه وجلت المحنة بظهوره واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين لا سيما أهل السنة والستر والسلامة إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد خوفًا من سلطانهم أولًا ومن شر الإسماعيلية ثانيًا فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال فانتظروا بهم الدوائر‏.‏